نسعى لنترك أثراً ملهماً حول العالم

قصة عشتار وتموز الإله الميت الحي

0 821

يأتي تموز من تعاقب الفصول، حين ينتهي الخريف ويحتضننا الشتاء في رحمه الدافئ كبذرة الحنطة، رفقة تموز في العالم السفلي للأرض بعيدًا عن البرد والصقيع الذي يلف وجه الأرض. هذا الوقت الذهبي لإعادة التفكير الطويل بما صنعته فصول السنة المتغيرة في حياتنا. التخطيط، الحنين، الرغبة، هي كل ما كانت تحتاجه الإله عشتار لتتذكر كم تحب تموز. رغم أنه أزعجها بما يكفي لتفكر أن يكون في قبضة عالم الموت بديلا لها. عشتار القوية والجميلة لديها ما يكفي من الحب لأن تبكي حبيبها وتحاول استعادته. ترى ما هي قصة عشتار وتموز؟ كيف نزلت عشتار الطموحة إلى العالم السفلي رغم معرفتها بكل ما فيه من شياطين ومكائد؟ هذا ما سنعرفه في مقالنا.

ما هي قصة عشتار وتموز؟

قصة عشتار وتموز

ربما سمعت عن بوابة عشتار المتواجدة حاليّا في متحف بيرغامون في برلين، عشتار آلهة الخصب والأنوثة الأولى التي اكتشفت من خلال الرقم المسمارية التي اكتشفت في بلاد ما بين النهرين. من بوابة مدينة بابل العظيمة نسجت أول أسطورة عشق عرفتها البشرية، فقد اختلفت قصص الآلهة حسب الحضارة التي احتضنتها ولكن يبقى الإطار العام للقصة نفسه.

كان شهر تموز دلالة لنضج المحاصيل الزراعية في حين ربط المشرقيون اسمه بإسم بطل الأسطورة العشتارية “تموز” الذي كان إله الرعي ( الماشية والنباتات). تموز هذا له قصة حزينة هو بطلها مع حبيبته عشتار (إنانا) السومرية. في حين أن أول النصوص التي ذكرت قصة عشتار وتموز كانت النصوص السومرية تلتها النصوص البابلية والآشورية.

تبدأ الأسطورة بالحديث عن طلب تموز الراعي يد عشتار من أخيها (أوتو) إله الشمس، ولكن عشتار كان قلبها يميل لفلاح يدعى “أنكي أمدو”. وفيما كان الأخ معجبا بتموز حاول أن يقنع عشتار بالخطيب الذي التقى غريمه وبينما كان يتحضر للقاء الأعداء كانت طيبة الفلاح هي الغالبة على اللقاء ليصبح بعدها الخصمين أصدقاء. لتتكلل جهود تموز أخيرا بإقناع عشتار بالقبول به خطيبًا وحبيبًا.

يقيم العاشقان في دارهما (بيت الحياة)، الذي له من اسمه نصيب، فهنا يتجلى سر الحياة باجتماع الخصب والنماء (عشتار) مع الحبيب (ديموزي) إله المحاصيل وقطعام المراعي (الطعام). تتدفق قصة عشتار وتموز في حبكتها لتصل إلى نقطة مفصلية في انسيابها وهيو نزول الآلهة إلى العالم السفلي. وبينما يبقى السبب الذي جعلها تتخذ هذا القرار لغزا لم يكشف، تقول الحكاية أن السبب في ذلك كان رغبة عشتار الطموحة النزول إلى عالم الموت الذي تحكمه أختها (أريشكيجال) لتخليص الموتى من عالمهم رحمةً بهم.

القرار المغامر غير المحسوب النتائج وضع عشتار في موضع كلّفها الكثير. ففي حين ارتدت زينتها وحليها واتجهت صوب العوالم السفلية السبعة، ليقوم حراس هذه العوالم بتعريتها من زينتها وملابسها حتى تصل إلى الباب السابع عارية بمواجهة أختها ومعها سبع قضاة، يحكمون عليها بالموت.

بموت عشتار توقفت الحياة عن الجريان، ولكن تدبير عشتار ساعدها في الخروج من محنتها، فقد عمدت قبل الشروع بمغامرتها بالطلب من خادمها الأمين ( ننشبور) في حال غيابها التوجه لإله الحكمة والمعرفة (إنكي) وطلب مساعدته، وهذا بالضبط ما تناقلته الأسطورة عن قصة عشتار وتموز.

ينجح إنكي بإهداء الحياة مرة أخرى لعشتار، ولكن وكما هو معروف فلا أحد يعود من الموت كما ذهب. فمن أجل عودة عشتار إلى الحياة يجب أن تختار بديلا يحل محلّها في عالم الموت. ولضمان تنفيذ الشرط رافقت عشتار إلى عالم الحياة سبعة شياطين، وفي رحلة البحث عن البديل تصل عشتار إلى عرشها لتجد تموز متربعا عليه وقد ساورتها الشكوك حول حزنه على غيابها. وفي قرار متسرع تختار أن تسوقه الشياطين بديلا عنها في عالم الموت.

بغياب تموز يموت وجه الأرض وتقفر الأرض، فيأكل عشتار الندم على ما فعلته بحبيبها وتطلب من آلهة العالم السفلي وقضاتها إرسال تموز ستة أشهر في السنة إلى (بيت الحياة)، على أن يعود بعدها إلى عالم الموت.

اقرأ أيضا: عشتار في التاريخ | أسرار عن آلهة الخصب والأنوثة

إلى ماذا ترمز قصة عشتار وتموز؟

عبر التاريخ القديم، عمد الإنسان الأول على تمثيل الطبيعة بجميع أشكالها وتصويرها في أساطيره وأسقطها على تجليات آلهته. ففي قصة عشتار وتموز نرى تجلِّي تغير الفصول وما يعتري الطبيعة فيها من تغيرات بكل وضوح فيما أوجدوا الكثير من الطقوس والعبادات تزامنا معها. ففي الخريف تسود الرياح في محاكاة واضحة للعويل الذي رافق غياب تموز. أما الشتاء فهي دموع عشتار ومناجاتها أختها لإرسال تموز، في حين أن الخصب والحب يتجلى في موسم الربيع. حين ترسل أريشكيجال تموز ليعمر “بيت الحياة”. إنها ستة أشهر من الخصب والفرح وستة أخرى من الموت في باطن الأرض.

قصة عشتار وتموز هي قصة الحياة والموت والبعث، ولقائهما الرمزي في الربيع يعطي لهذا الفصل معانيه المتجسدة في الخصب والحب والتكاثر. وبعد الولادة يأتي الصيف وهو الفصل الذي يموت فيه تموز في تجسيد لفكرة الحصاد، أي قطع أعناق القمح ومن ثم درسه

جورج كدر

من هو تموز في الحضارات القديمة؟

معنى تموز في الحضارات القديمة

في الحضارات القديمة، وحسب النقوش التي عثر عليها، فإن الإله البابلي الذي يمثل الخصوبة ويعزف على الفلوت السحري هو تموز، وهو ابن الإله البابلي “أبسو” (إله الماء). فيما يذهب جورج كدر الباحث السوري، أن تموز هو ديموزي السومري، أما في الحضارة الإغريقية فهو أدونيس، كذلك كان اسمه في حضارة أوغاريت. أما عند الفينيقيين فهو أدون.

جورج كدر وباحثون آخرون مثل جيرمي بلاك (Jeremy Black)‏ وأنتوني جرين ذهبوا أن الإله تموز يعود إلى عصر ما قبل الطوفان. حيث اعتبروا أن دموزي هو الخامس في الملوك الذين حكموا مدينة باد تيبيرا، كما أنه أحد ملوك مدينة الوركاء وفقًا لقائمة ملوك حضارة “سومر”.

في الحضارات القديمة المتعاقبة في بلاد ما بين النهرين وفي شهر تموز أقيمت مراسيم دينية رافقها نحيب وعويل وهو الموعد الذي يحين فيه نزول حبيب عشتار (تموز) إلى العالم السفلي. أما بداية السنة السومرية الجديدة فهي في الربيع ويٌحتفل فيها في شهر نيسان من كل عام. وهو يمثل عيد الربيع في بلاد الرافدين، ومن الجدير بالذكر أن هذا العيد ما زال يحتفل فيه بإحياء طقوس الفرح في أنحاء مختلفة من العراق وسوريا حتى اليوم، ممثلا قصة عشتار وتموز بأبهى حلّة للخصب والوفرة.

اقرأ أيضا: الإله عشتار : الموسوعة الشاملة للأسطورة

قصة عشتار وتموز و رمزيتها في الأديان السماوية

قصة عشتار وتموز

يبدو أن أسطورة عشتار وحبيبها تموز لم تندثر، بل نجد رجع صداها في كثير من الأديان حيث بقيت حية في ذاكرة السكان. فقد ذهب الباحثون بعيدًا في هذا الخصوص، فحسب جورج كدر في كتابه (معجم آلهة العرب قبل الإسلام)، نجد في النسخة السومرية للأسطورة ربطًا بين ديموزي ابن إله الماء العظيم وبين موسى عليه السلام الذي يعني اسمه في الفرعونية ” المنتشل من الماء”. حتى القرن الحادي عشر ميلادي حافظت قصة بعث تموز من بين الأموات على رمزيتها في ديانة بلاد الرافدين. كما نجد ذِكرًا لاسم تموز في الكتاب المقدس “سفر حزقيال”.

أما في المسيحية، فإن في قصة عشتار وتموز الذي يموت ويعود إلى الحياة ليفتدي البشر ويعيد إليهم دورة الخصب من جديد، نجد تقاطعًا صارخًا بينها وبين قصة المسيح الفادي الذي يعود من الموت بعد ثلاثة أيام لتستمر الحياة.

في الإسلام أيضًا، نجد تشابها في رمزية العويل على تموز لإعادته للحياة وبين الطقوس التي يقيمها بعض المسلمون في الندب والرثاء بعد قتل الإمام الحسين حفيد الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.

ثم جاء بي إلى باب بيت الرب الذي من جهة الشمال. وهوذا نساء جالسات يبكين على تموز.
فقال لي أرأيت هذا يا ابن آدم. أرجوك أيضا فلتنظر رجاسات أعظم من هذه.

 
حزقيال 8: 14-15 نسخة الملك جيمس

ربما تبدو قصة عشتار وتموز بعض من الأساطير والحكايا التي يتناقلنها النسوة في مخادع أطفالهن من دون أساس تاريخي، في حين أن لقصة الإله عشتار تجليات أكبر من ذلك، فعبر الحضارات التي تعاقبت على البشرية نجد إسقاطا متكررًا لهذه الأسطورة، لتكوِّن كل حضارة أسطورة العشق الخاصة بها. ففي مصر هناك إيزيس وأوزوريس، وفي روما سيبيل وآتيس أما في اليونان فأفروديت وأدونيس. إنّ الإشارة لموت إله الخير لفترة ومن ثم عودته للحياة لهي أسطورة كل مكان وزمان بلغة أهله وحضارته.

اترك رداً

لن يتم عرض بريدك الالكتروني.

تم إضافة تعليقك بنجاح

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء ملفات الكوكيز في أي وقت إذا كنت ترغب في ذلك. موافققراءة المزيد