النقد الذاتي وأهميته في بناء الفرد والمجتمع
إن النقد صفة إنسانية وجزء من طبيعتنا كبشر. فترانا نعجب بهذا الأمر وننتقد ذاك الأمر لعيب أو نقص فيه. وبالطبع فإن النقد قديم قدم الوجود الإنساني وليس موضة حديثة أو نزعة طارئة في حياة الإنسان. إذ إنه نشاط إنساني ارتبط بنظرة الإنسان للأمور. والنقد لا يعني أبداً التجريح والانتقاص من قيمة الطرف الذي ننتقده. بل إن هدف النقد أسمى من ذلك بكثير حيث أنه يرمي بالدرجة الأولى إلى التحسين والإصلاح والسير نحو الأفضل. ولكي يكون هذا النقد ناجحاً وبناءً يجب أن يكون بعيداً كل البعد عن الأفكار الهدّامة التي تفاقم المشكلات بدلاً من أن تسهم في حلها. ولعل من أكثر أنواع النقد صعوبة وحساسية وتأثيراً هو النقد الذاتي… فماذا يعني هذا المصطلح ؟ وهل من المعقول والممكن أن ينقد المرء ذاته!؟
ما هو مفهوم النقد الذاتي؟
إن النقد الذاتي معناه أن يفكر الإنسان بشكل عميق في صفاته وأفكاره ومعتقداته وسلوكياته المختلفة. وذلك بهدف تحديد الجوانب السلبية في شخصيته. ومن ثمّ مناقشة هذه الجوانب والنقاط السلبية مع مجموعة من الأفراد. أو قد يقتصر الإنسان على نقد ذاته بمفرده من دون إشراك أحد في ذلك فيحسّن ما فيه من جوانب سلبية. ويعزز ما هو إيجابي في شخصيته.
في الواقع فإن النقد الشخصي لا يقتصر على نقد الفرد لنفسه. بل إن دائرة النقد هنا أوسع من ذلك بكثير. كما تشمل نقد المؤسسات والمنظمات لأخطائها والعمل على تصحيحها. وذلك تلافياً لتراكم وتتابع الأخطاء الذي يوصلها إلى الهاوية وإلى انهيارها ككل. بالإضافة إلى ذلك فإن هناك اختلافا جوهرياً بين النقد الذاتي للمؤسسة و للفرد.
ففي النقد الذاتي المؤسساتي يكون الهدف من هذا النقد هو الإضاءة على السلبيات والأخطاء بصورة موضوعية ومن ثم تكون بعيدة كل البعد عن توجيه النقد إلى فردٍ منها لشخصه. أما عندما يكون للفرد فإن الشخص يكتشف أخطاءه التي لا بد له من تصحيحها لتحسين شخصيته بجوانبها المختلفة.
في الواقع إن النقد يتنوع بتنوع الجهة التي يصدر عنها . إذ إن مفهوم النقد الذاتي في مجال السياسة يختلف بشكل كبير عن مفهوم النقد في مجال الفلسفة.
النقد الذاتي من وجهة نظر الفلسفة
تنظر الفلسفة إلى النقد الذاتي على أنه أحد أهم الدلائل على سلامة الإنسان من الناحية العقلية. علاوة على ذلك فهو دليل على شخصية الفرد السليمة التي تنتقد نفسها وتفكر بموضوعية لكي تصحح أخطاءها وتتعلم منها. بالإضافة إلى ذلك فإن قيام الإنسان بنقد نفسه فيه مساحة من الحرية لا تتوفر أبداً لمن يقوم بتوجيه النقد إلى سواه. إذ إنه ليس بإمكانه أن يكون صريحاً بشكل كامل مع غيره. وبالطبع يجب أن يبقى الإنسان بعيداً عن النقد المبالغ فيه ومن ثم فإن المبالغة في النقد تنعكس بصورة سلبية على شخصية الإنسان.
النقد الشخصي من وجهة نظر السياسية
إن الأمر في السياسة مختلف تماماً حيث تقوم بعض الأحزاب بإلزام أعضائها على حضور اجتماعات يمارسون فيها النقد الذاتي بغية مناقشة السلبيات والأخطاء التي يقع فيها من أجل تصحيحها قبل أن تتفاقم وتشكل خطراً على استمرارية الحزب وخسارته جمهور وشعبيته. وتبعده عن تحقيق الأهداف التي وضعها لنفسه.
وأحيانا ينتهي الأمر بهم إلى القيام بفصل بعض أعضاء الحزب الذين تمادوا في أخطائهم وتجاوزا حدودهم المسموح بها. أو أنهم خالفوا مبادئ هذا الحزب ومنطلقاته العامة.
دور النقد الذاتي وأهميته في إصلاح الفرد
تزداد أهمية وأثر النقد الذاتي في مدى فاعليته في الحياة من تدارك للأخطاء والقيام بتصويبها والتقدم بخطوات ثابتة نحو وجهة أفضل وأكثر وضوحاً وصواباً.
فالنقد الذاتي للفرد هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع ذلك أن صلاح المجتمع من صلاح أفراده. ويبدأ النقد الذاتي لكل فرد من قيامه بمراقبة نفسه سلبياتها وإيجابياتها ماضيها وحاضرها. ومن ثم ينشغل عن مراقبة الناس وتتبع أخطائهم. إذ إن الغاية من هذا النقد لا تكمن في العقاب والتوبيخ. وتوجيه الأذيّة لمن أخطأ بل المساعدة في تصحيح المسار بالتعقل والإنصاف إذ إن تقويم سلوك الفرد والنهوض بأفكاره والارتقاء بمستوى إنسانيته هو الهدف والغاية.
أهمية النقد في إصلاح المجتمع
إن الحساسية الشديدة والصعوبة الجمّة التي ينطوي عليها النقد الذاتي قد يمنع الكثير من خوض مثل هذه التجربة. والقيام بنقد أنفسهم على الرغم من النتائج الإيجابية التي قد يجنونها من وراء ذلك.
وإذا كان الأمر بهذه الصعوبة فيما يتعلق بنقد الفرد لنفسه فمن المؤكد أنه سيكون أصعب بكثير حين نتحدث عن النقد الذاتي للمجتمع. ويعود السبب في ذلك إلى ارتباط هذا النقد بمجموعة من العوامل المشتركة بين أبناء المجتمع من مثقفين وقادة مؤثرين. إضافة إلى نظرة المجتمع إلى واجباته وحقوقه وكذلك الطريقة التي يتعامل بها مع التحديات التي تواجهه. فكلما ازداد الوعي في المجتمع وكلما ارتقى ثقافياً وأصبح أكثر تحضراً زادت قدرته على فهم واستيعاب الظروف المتغيرة والجديدة التي قد تطرأ عليه. وبالتالي أصبح قادراً على أن يتعامل معها بطريقة وأسلوب حضاري يتناسب مع مستوى ثقافته.
وفي مثل هذه الحالة يظهر دور النخبة الثقافية وقادة المجتمع وطبيعة الخطاب الذي يتم توجيهه إليه في وسائل الإعلام. فإذا كان هذا الخطاب مشحوناً بالتحريض الطائفي أو القبلي. وتغلب عليه نبرة التحشيد دون وجود مبررات منطقية فإن هذا يكون مؤشراً واضحاً على تواضع المستوى الثقافي في هذا المجتمع. ففي مثل هذه الحالة تصبح وسائل الإعلام وسيلة لتبرير أخطائهم وتسويغ منطقهم المغلوط. مما يعطل قدرات المجتمع وإنتاجيته الإبداعية والفكرية. وهنا يأتي دور النقد الذاتي كمهمة يقوم بها المثقفون للتصدي لهذه الغوغائية والتحشيد الغير صحي. لاستعادة الكيان السليم لهذا المجتمع. وتحفيز مبادرات أفراده لصناعة حاضره والعمل اَلْخَلَّاق لبناء مستقبل أفضل له. بعيداً عن هذه السلبيات.
الأخطاء الكامنة داخل المجتمع
في طبيعة الحال فإن المجتمعات التي تتصف بالنرجسية ترفض النقد الذاتي رفضاً قاطعاً. كما وتنظر إلى نفسها على أنها فوق كل محاسبة وأعلى من أن يشار إلى أخطائها. أو أن تحاسب على هذه الأخطاء ومما يثير العجب والسخرية في آن أن المجتمعات المتخلفة أو بلغة أخرى الأدنى تحضراً وثقافة تتشارك مع هذه المجتمعات النرجسية في رفضها للنقد الذاتي مع وجود فرق في الأسباب وال دوافع وراء رفض النقد من قبل كلا المجتمعين فالأول يرفض النقد الذاتي استعلاءً وفوقية أما الثاني وأعني الأقل تحضراً فإنه يرفض النقد عجزاً منها عن مواجهة أخطائها وتثاقلاً في التوجه إلى إصلاح تلك الأخطاء.
وفي الختام يمكننا القول بأن النقد الذاتي علامة على تحضر وتقدم أي مجتمع. ودليل قاطع على استعداده لتجاوز أخطائه وتصحيح مساره. والنهوض بالإنسان والمجتمع نحو مستقبل أفضل.