تأثير بجماليون Pygmalion effect
عزيزي القارئ إن في هذا المقال ما قد مرّ معك خلال مراحل عدة من حياتك، لقد وقعت تحت تأثير بجماليون مرات كثيرة دون أن تدري، بدءاً من الأسرة التي وضعت الأساس لتكوين شخصيتك وغرس أول بذورها عبر تأثير بجماليون مروراً بمرحلة المدرسة حينما ساعدنا المعلمون على تكوين وتطوير شخصياتنا عبر ذات التأثير “بجماليون” إلى المحيط حولنا من بيئة وبلدة وعادات والأشخاص المحيطين بنا والذين لهم تأثير كبير علينا وغالباً ما نقع منهم تحت تأثير بجماليون. فكيف مررنا جميعاً تحت تأثير بجماليون؟
تأثبر بجماليون في حياتنا
تذكر مراحل طفولتك حينما شجعك والداك على اجتياز مرحلة دراسية أو اختبار معين. وذكرا لك أنك قادر على النجاح. وأنك في مستوى التفوق، وفعلاً قد نلت التفوق بعدما أثر فيك والداك تأثير بجماليون. هل جربت بعض الأحيان في طفولتك مشاعر الخوف من أحد الأطفال المتعجرفين والمتسلطين. ليأتي والدك ويعالج رهبتك من الولد بتأثير بجماليون. ويشدو لك نصائح الأبطال والعبارات التشجيعية عن البطل الخارق، ويغرس فيك الشجاعة ويقنعك أنك أقوى شخص على الأرض. وعند أول احتدام بينك وبين ذلك الولد الشقي تستذكر كل ما أثره والدك عليك وتجد نفسك بمنتهى الشجاعة لتقضي على خوفك وهيبة خصمك.
من الناحية السلبية هل جربت أن تكره مادة دراسية فقط لأن مدّرس تلك المادة كان شديد وينهال عليكم بالعبارات السلبية والفشل وتثبيط الروح المعنوية هل أصبحتِ تطيلين النظر في المرآة أكثر عن ذي قبل وترين نفسك بجمال لم تنتبهي له لمجرد أن زميلكِ قال لك ” ما أجملك”. فكيف تم اكتشاف تأثير بجماليون؟
تجربة تأثير بجماليون
لقد قام عالم النفس روبرت روزنتال بإثبات تأثير بجماليون على الناس. وخصصه كعلم في النفس حينما قام بتجربة على مدرسة ابتدائية في كاليفورنيا. حيث قام باختيار مجموعة من الطلاب بشكل عشوائي بنسبة 20% على أنهم نخبة النخبة وأساس التفوق والذكاء، وتم وضعهم في فصل خاص لقدراتهم الذهنية والعقلية المتقدمة. علماً أن هؤلاء الطلاب كغيرهم في المستوى الامتحانات الفصلية.
ولكن حينما علم المعلمون أن ذلك الفصل خاص بالطلبة حادي الذكاء والقدرات العقلية أصبحوا يهتمون بهم بشكل أكثر ويكثرون من الدعم النفسي ورفع الروح المعنوية وغرس الكلمات التشجيعية من ذكاء وتفوق في عقول طلبة ذلك الفصل. وبعد ثمانية أشهر عند اختبارات فصلية أخرى تبين أن طلبة ذلك الفصل قد ارتفع مستواهم الدراسي وحدة ذكائهم بشكل كبير عن قبل. بتلك التجربة قد نجح تأثير بجماليون وتم الإقرار به كاختصاص في علم النفس. عرفت الظاهرة باسم تأثير بجماليون على الرغم من أن عالم النفس التي اكتشفها وعمل على تجربتها لا يسمى أو يكنى بذلك، فمن أين أتى بذلك الاسم “بجماليون”؟
أسطورة بجماليون
عرفت ظاهرة بجماليون للكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو وذلك في مسرحيته الأسطورية “بجماليون”. تحكي الأسطورة عن شاب إغريقي يدعى بجماليون يعيش في قبرص. اشتهر بنحته الرائع وعمل منحوتات رائعة. آثر بجماليون على العزوف عن النساء والابتعاد عنهن لما كانت الفتيات في تلك المنطقة يبالغن بعهرهن وشذوذهن مما دعا بجماليون إلى الانشغال بعمله ومنحوتاته. لقد بلغ التعب من بجماليون مبلغه ولقد آثر حياته المهنية على العاطفية حتى شح قلبه من المشاعر. شعر بحاجة إلى الاستراحة من النحت والحاجة إلى إشباع عاطفته وقلبه بعيداً عن الغجريات في الجزيرة. فقام بنحت شخصية أنثوية وعمل عليها فترات طويلة حتى تتكون بأبهى ما عليه. لقد عمل على أن تكون أنثى جميلة لائقة خالية من العيوب التي يراها في نساء قبرص.
نحت فتاته على هواه وحلمه كما أرادها أن تكون وأسماها جلاتيا. مضت الأيام وتعلق بجماليون بفتاته المنحوتة “جلاتيا” يزداد يوماً بعد الآخر. حتى أصبح يلبسها أجمل الثياب ويزينها ويقدم لها أجمل الهدايا والعطور. بات يلامسها ويداعبها ويتخيل أنه يراقصها. لقد شغفته حباً تلك المنحوتة “جلاتيا”. حتى قرر الذهاب إلى آلهة الجمال الإغريقية “فينوس” وتقدم إلى معبدها بقربان وجلس يتضرع لها أن تجعل فتاته جلاتيا حقيقة فقد أحبها وهام بها وهي ساكنة لا تتحرك.
وبعد التضرع والخنوع والقربان لآلهة الجمال “فينوس” عاد بجماليون إلى داره وأراد أن يقبل منحوتته “جلاتيا” كما يفعل كل مساء فشعر بإحساس غريب تلك المرة. كان خد المنحوتة دافئاً كأنما تلامسه الحياة. تقدم لعناقها فشعر بيد تحتضنه حتى أحس أن الآلهة فينوس قد استجابت لتضرعه وأوهبت الحياة لحبيبته جلاتيا. ومن ثم عاش بجماليون وجلاتيا حياة سعيدة وأنجبا طفلاً أسمياه “بافوس”. اشتهرت تلك الأسطورة باسم بجماليون وقد نسب العالم روزنتال تجربته إلى تلك الأسطورة الإغريقية ولقد كان لتلك التجارب فوائد كبيرة في علم النفس. ومن القصص الأسطورية ننتقل إلى تأثير بجماليون على أرض الواقع.
قصة حول تأثير بجماليون
لعل القصة التي سأطرحها كلنا على دراية بها ونعلمها منذ الصغر حول تأثير الأم على طفلها. كلنا نعلم قصة العالم الشهير “توماس أديسون” حينما كتبت المدرسة لأمه “ابنك غبي جداً ولا يصلح للمدرسة” فاغرورقت عينا أمه بالدموع ليسألها ” ماذا كتبت المدرسة؟” فتجيب بكل ثقة ” لقد كتبت أن مستواك أعلى من المدرسة وعليك بالتعلم في المنزل”. لقد وقع أديسون تحت تأثير بجماليون دون أن يدرس وآمن بذلك. كذلك أمه آمنت بذلك وشجعته على العلم. حتى أصبح ما عليه وأطلق اسمه كأول مخترع للمصباح الكهربائي. إن تلك القصة ومعرفتنا بتأثير بجماليون يجعلنا نفكر بتلك الظاهرة وتطبيقنا لها.
تطبيقات بجماليون
إن ما ذكرته في بداية المقال حول وقوعنا تحت هذا التأثير من قبل كل شخص نقابله وكل كلمة يجعلنا نعيد حسابتنا في كل كلمة نطلقها وكل مقال نقوله. لكل منا أشخاص نؤثر عليهم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك فإن حرصنا على انتقاء كلماتنا قبل تصويبها نحو الآخرين. يعيد تشكيل معتقداتهم حول أنفسهم وكذلك فإن الأصداء التي تصلنا من قبل الآخرين تغير معتقداتنا حول أنفسنا. بدءاً من الأم والأب نحو هدم طفلهما أو بناءه عبر تأثير بجماليون على الطفل بعبارات رنانة يتبناها الطفل ويكبر عليها من دعم نفسي يستشعر بقوته وتفوقه وقيمته في الحياة.
مروراً بالمعلمين بناء الأجيال والذين لهم الدور الأكبر في تأثير بجماليون على الطلاب من تحفيز وتشجيع على تخطي المراحل الدراسية أو عبر تثبيطهم ووهن عزيمتهم في كل مرة يستهينون بالطالب وعقليته ويؤثرون عليه بالفشل الذريع الذي ينتظره.
تأثير بجماليون يقع عند كل كلمة توجهها للآخرين ويؤثر بهم حتى لو لم يظهر ذلك على بنيتهم الخارجية ولكن عقل الباطن البشري مستعد لاستقبال أي رسائل تصله ويتبناها وربما يعيش بها باقي حياته. لهذا ينصحك ملهمون باختيار كلماتك ومحيطك بعناية. وتكون واعي على تأثير بجماليون.