تخيل أن تعيش حياتك محرومًا من اليقين مجردًا من الثقة، تستجوب قناعاتك وإيمانك كل يوم وتحلل تصرفات الآخرين وتشعر بأنهم غير صريحين معك، يتهمك الجميع بالجنون والتعقيد رغم أنك لا تلاحظ وجود أي مشكلة لديك، يبدو الأمر جحيمًا حقيقيًا؛ ولكن هذه لمحة بسيطة عن معاناة بعض الأشخاص المصابين بمرض الشك الذي يتغلغل إلى أعماق شخصيتهم ليترك فيها بقعًا عمياء تحجب عنهم نور الحقيقة، ويؤثر على أفكارهم وعلاقاتهم وتصرفاتهم، ولكن ما هو مرض الشك وكيف ينشأ وكيف نتغلب عليه، إليك كل ما تحتاج معرفته عن هذا المرض في هذا المقال.
ما هو مرض الشك
تدخل إلى منزلك وتغلق زوجتك الهاتف في نفس الوقت، فيتبادر إلى ذهنك في هذه اللحظة أمران:
الأول هو أن انتهاءها من المكالمة بشكل متزامن مع دخولك هو مجرد صدفةٍ وهذا يعني أنك شخص طبيعي. والثاني هو أنها تعمدت ذلك لأنها تخفي عنك شيئًا ما أو تخطط لخيانتك وهذا يعني أنك مصاب بمرض الشك. ونستنتج من هذه القصة ثلاثة حقائق عن مرض الشك أولها أنه أشيع عند الذكور. والثانية هي أنها لا يستند إلى دليلٍ منطقيّ واضحٍ. والثالثة أن تأثيره الأخطر هو تدميره لعلاقات المريض.
ويعيش تحت تأثير هذا الاضطراب حوالي 24% من سكان العالم. ويدعى أيضًا باضطراب الشخصية الزورانية paranoid personality disorder الذي يعني مزيجًا من الشعور بالعظمة والشك الوسواسيّ في كل شيء وفي كل شخصٍ يتعامل مع المريض.
ويختلف الشك الطبيعي عن اضطراب الشك بأنه يركز على الشك كوسيلة للوصول إلى الحقيقة بينما مرض الشك يركز عليه كغاية. ويكون متحيزًا في أغلب الأحيان حيث يقفز إلى خلاصات يرغب في إثباتها مسبقًا.
ماهي أسباب مرض الشك
مثل كثير من اضطرابات الشخصية فإن السبب المؤكد وراء تطور مرض الشك ليس معروفًا بشكل واضح. ولكن يتهم العلماء مجموعة من العوامل البيئية المترافقة مع استعداد وراثي بالوقوف خلف هذا الاضطراب. ولا سيما أن هؤلاء المرضى يكون لديهم غالبًا قصة عائلية للإصابة بالفصام، مما يقترح ارتباطًا بين المرضين و عوامل وراثية مسؤولة عن انتشاره لدى بعض العائلات.
وأفادت دراسة عام 2017 أن السبب الأهم وراء نشوء مرض الشك قد يكون صدمات ورضوض نفسية في الطفولة. فمثلًا الطفل الذي يتعرض للخداع المتكرر من أقرانه أو من أبويه يترسخ لديه شعور بعدم الأمان ويكبر ليصبح إنسانًا متشككًا لا يستطيع استيعاب وجود أشخاص أوفياء يكترثون لمصلحته ويريدون له الخير. ويزيد ذلك سوءًا التفكك الأسري وإهمال الطفل و التعرض للتنمّر والنبذ الاجتماعي.
ماهي أعراض مرض الشك
يشتمل اضطراب الشّك على مجموعة من الأعراض المتفاوتة بين المرضى والتي تتضمن بصورة عامة ما يلي:
- البرودة في العلاقات وعدم القدرة على الحفاظ عليها.
- الحساسية الشديدة من النقد وعدم التفريق بين النقد البنّاء والهدّام.
- التشكيك في إخلاص ونوايا جميع من يعرفه حتى أقرب المقربين له.
- الميل للجدال والدفاع عن المواقف الشخصية بشكل شرس.
- عدم القدرة على استيعاب قلق الآخرين تجاهه واستيائهم من سلوكه.
- المبالغة في تحليل الأقوال والتحركات الصادرة عن الآخرين لاستنتاج النوايا المخبأة وراءها.
- الانسحاب الاجتماعي والعزلة وعدم الرغبة في الاختلاط مع الآخرين والفشل في العمل الجماعي.
- فقدان التعاطف مع المحيطين به والميول العدوانية و عدم القدرة على المغفرة والتسامح.
- الخوف من مشاركة أي معلومات شخصية مع أي جهة وأوهام حول كونه مراقبًا أو ملاحقًا.
- الاعتقاد بأن الآخرين يكيدون له ويحاولون إيذاءه أو التآمر عليه، وعدم القدرة على إعطائهم أي تبريرات.
كيف يتم تشخيصه
إذا كنت تعاني من بعض الأعراض السابقة أو تلاحظ وجودها لدى فرد من عائلتك فلابد من مراجعة الطبيب النفسي ليقوم بالفحص والاستجواب ووضع التشخيص المناسب، حيث تلتبس أعراض مرض الشك أحيانًا مع اضطرابات أخرى مثل اضطراب الشخصية الحدية أو القلق أو الفصام الزوراني أو الاكتئاب.
ما هو العلاج
تعتبر المعالجة النفسية حجر الأساس في علاج مرض الشك. حيث يحاول الأخصائي النفسي مناقشة مخاوف المريض وتفنيدها. ويركز على تقوية علاقاته الاجتماعية وزيادة مستوى تعاطفه وثقته بالآخرين. ولكن تكمن المشكلة في مقاومة العلاج وعدم الثقة في إرشادات الطبيب أو المختص النفسي مما يفاقم حالة المريض ويمنعه من متابعة حياته الطبيعية، أو يدفعه للانتحار في بعض الأحيان.
وقد يقوم الطبيب أيضًا بوصف علاج دوائي يتضمن مضادات الاكتئاب ومضادات القلق أو مثبتات المزاج والأدوية المضادة للفصام وخاصة إذا ترافقت الحالة مع اضطرابات نفسية أخرى.
هل يمكن أن يعيش مريض الشك حياة طبيعية
لا يُعد مرض الشك اضطرابًا خطيرًا عندما يعترف المريض بوجود أخطاء في طريقة تفكيره وتعامله مع الآخرين، وعندما يتلقى الإرشاد و الدعم النفسي المناسب. ويتمكن الكثير من المرضى من بناء علاقات سوية و تحقيق النجاح العاطفي والازدهار العملي.
هل يرتبط مرض الشك بالوسواس القهري
يعتبر مرض الشك في كثير من الأحيان جزءًا من اضطراب الوسواس القهري. ولكن قد يتميز الوسواس القهري عنه بأنه يركز على نمط متكررٍ أو متسلسلٍ من التصرفات اليومية كالتأكد من إغلاق الباب أو إطفاء الأجهزة الكهربائية عدة مرات بدافع الشك أو النسيان. ويترافق أيضًا بشكل شائع مع الوساوس المتعلقة بالنظافة، بينما يؤثر مرض الشك بشكل أكبر على العلاقات الاجتماعية ويجعل المصاب مرتابًا من نوايا الآخرين وما يخفونه.
وفي النهاية لابد من التنويه إلى أن الشك هو جزء من المهارات المعرفية التي يتميز بها الإنسان والتي تساعده على التفكير والوصول للحقيقة. ولكن مثل أي شيء في هذا العالم، يوجد حول الشك مسافة أمان يجب ألا نتجاوزها كي لا نصبح ضحية لجنون الارتياب أو العظمة.
